خير وسيلة للدفاع هي الهجوم
نهاية زمن الضربات الخاطفة؟
في سابقة تاريخية غير معهودة، اهتزّ العالم على وقع انفجارات صواريخ إيرانية تسقط في قلب تل أبيب، معلنة تحولًا استراتيجيًا غير مسبوق في معادلة الصراع في الشرق الأوسط. المشهد ليس مجرّد تصعيد عسكري بل لحظة فارقة تُعيد رسم موازين القوى الإقليمية والدولية. فهل أصبحت "نظرية الردع" التي كانت إسرائيل تلوّح بها مجرد سراب؟ وهل أخطأ نتنياهو التقدير حين راهن على حسم الحرب خلال ساعات؟ أم أن إيران نجحت فعليًا في إخراج الولايات المتحدة من دائرة الفعل العسكري المباشر، وتحويلها إلى مراقب مرتبك؟
في هذا المقال التحليلي، نغوص في خلفيات هذا النزاع الساخن، نكشف خفاياه الاستراتيجية، ونتساءل عن تداعياته المستقبلية على المنطقة والعالم، من النفط إلى الأمن، ومن الخرائط السياسية إلى إعادة تشكيل التحالفات.
1. من الضربة الأولى إلى الهجوم المعاكس: إيران تتجاوز صدمة المباغتة
عندما شنّت إسرائيل ضربتها الأولى على منشآت عسكرية ونووية داخل إيران، بدعم استخباراتي ولوجستي أمريكي، لم يكن العالم يتوقّع أن تمر ساعات معدودة قبل أن تبدأ الردود الصاروخية تتساقط على المدن الإسرائيلية، وخاصة تل أبيب.
المفاجأة لم تكن فقط في توقيت الرد الإيراني، بل في نوعيته وكثافته. صواريخ دقيقة وبعيدة المدى، بعضها مطوّر محليًا، خلّفت عشرات القتلى ومئات الجرحى، ودمّرت مواقع عسكرية ومراكز حيوية. هذه ليست مجرد رسائل تكتيكية، بل إعلان صريح بأن زمن "الضربات الخاطفة" قد انتهى.
2. صدمة الغرب: عندما تنقلب الرواية السياسية على ترامب
قبل 48 ساعة فقط من تغير لهجته، أشاد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالهجوم الإسرائيلي على إيران واصفًا إياه بـ"العمل الرائع". لكن ومع دخول المعركة مرحلة الاستنزاف، وتزايد المخاوف من اندلاع حرب شاملة، خرج ترامب بتصريح مفاجئ صباح اليوم، قال فيه إن "الحرب يجب أن تتوقف فورًا".
هذا التغيّر الحاد في الموقف الأمريكي يُظهر بجلاء أن حسابات الحرب خرجت عن السيطرة، وأن تداعياتها الاقتصادية والعسكرية قد تهدد استقرار النظام الدولي بأكمله، وخاصة في ظل ارتفاع سعر برميل النفط بأكثر من 7 دولارات دفعة واحدة، ما ينذر بأزمة تضخم عالمي غير مسبوقة.
3. عندما تفشل نظرية "الردع الخاطف": حسابات نتنياهو الكارثية
نتنياهو، العالق بين أزماته الداخلية وملفات فساده القضائية، راهن على عملية عسكرية خاطفة تُعيد له بريقه السياسي وتحرّك الرأي العام الإسرائيلي ضد إيران. لكنه أساء فهم خصمه، ولم يُحسن قراءة التغيرات الجيوسياسية في الإقليم.
اعتقد أن إيران منهكة داخليًا، ومحاصرة خارجيًا، وأنها سترد بخجل، أو لن ترد أصلًا. وهو ما لم يحصل. فبدلًا من الخضوع، شنت إيران أعنف رد عسكري في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، دون أن تعتمد كثيرًا على أذرعها التقليدية كحزب الله أو الحوثيين.
4. انهيار تحالفات الصمت: موقف الصين وروسيا ورسائل الشرق الصاعدة
الصين، وإن اكتفت ببيان دبلوماسي يدين الاعتداء الإسرائيلي، إلا أن موقفها يُعتبر إشارة قوية على رفضها للهيمنة الأحادية في الشرق الأوسط. أما روسيا، فقد دخلت على الخط بشكل مباشر، من خلال دعوات لتطويق الحرب ومنعها من التوسع، وهو ما يعكس خشيتها من تغييرات مدمّرة في معادلات النفوذ بالمنطقة.
في المقابل، الدول الأوروبية وجدت نفسها في موقف حرج بين دعم إسرائيل كمبدأ استراتيجي وبين مخاوف التضخم وتهديدات إغلاق مضيق هرمز من قِبل إيران، وهو ما سيؤدي حتمًا إلى انهيار جزء كبير من سلاسل التوريد العالمية.
5. هل تستطيع إسرائيل تحمّل حرب استنزاف مفتوحة؟
إسرائيل لم تخض منذ 1973 حربًا إقليمية بهذا الحجم وبهذا الانفتاح على كل الجبهات. فقد جُرّت إلى معركة متعددة الجبهات: من غزة، إلى لبنان، إلى اليمن، والآن في قلب العمق الإيراني.
جيش الاحتلال يتعرض لضغط مزدوج: داخلي، عبر الخسائر البشرية وقلق الرأي العام، وخارجي، عبر فشل تحقيق التفوق السريع، وتراجع الدعم الدولي. في المقابل، إيران تُظهر تماسكًا سياسيًا وعسكريًا، وتبعث برسائل مفادها أن كل الاحتمالات واردة، بما في ذلك التصعيد في البحر عبر السيطرة أو إغلاق مضيق هرمز.
6. النفط، السلاح الخفي: التضخم العالمي يُطل من الخليج
الاقتصاد العالمي لم يتعافَ بعد من تداعيات جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، حتى جاءت الحرب الإيرانية الإسرائيلية لتضرب قلب المعادلة الطاقية. ارتفاع سعر النفط بأكثر من 7 دولارات خلال 24 ساعة فقط يُنذر بموجة تضخم عالمي قد تؤدي إلى رفع أسعار الفائدة مجددًا، وركود اقتصادي واسع.
وإذا ما قررت إيران التصعيد أكثر، وإغلاق مضيق هرمز ولو بشكل جزئي، فإن 30% من تجارة النفط العالمية ستُصاب بالشلل، ما يجعل هذا السيناريو أكبر تهديد للأمن الطاقي منذ الحرب العراقية الإيرانية.
7. من الشرق الأوسط إلى العالم: آثار استراتيجية طويلة المدى
هذه الحرب ليست مجرد تصعيد عابر. إنها نقطة تحول تاريخية. إنها لحظة يعاد فيها تشكيل التحالفات، وإعادة رسم خرائط النفوذ. ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في أوروبا، وآسيا، وواشنطن نفسها.
إيران أثبتت أنها ليست مجرد "دولة مارقة" كما كانت توصف، بل فاعل إقليمي مؤثر. أما إسرائيل، فقد خسرت إلى حد كبير صورة الدولة التي لا تُقهر. أما العرب، فهم منقسمون بين صامت، ومحرّض، ومراقب ينتظر الكفّة الغالبة.
ختاما: من لا يملك القوة لا يُصغى إليه
لقد كشفت هذه الحرب بوضوح أن العدالة وحدها لا تكفي، وأن الحق دون قوة مجرد كلمات تُنسى في زوايا المؤتمرات. من يملك الصواريخ، يملك الخطاب. ومن يفرض المعادلات على الأرض، هو من يُعيد كتابة التاريخ.
"إذا أردت أن تعرف أخلاق الإنسان، فانظر إلى فعله في الحرب، لا إلى قوله في السلم." — سقراط
أكتب تعلقيك هنا إن كان لديك أي تسائل عن الموضوع