جماعة تاوريرت فوق صفيح ساخن
عندما يتحول كرسي المسؤولية إلى أداة للعبث بالمال العام:
في واقعة أعادت إلى الواجهة الجدل المحتدم حول الفساد الإداري والمالي في تسيير الشأن المحلي بالمغرب، أصدرت غرفة جرائم الأموال الابتدائية بمحكمة الاستئناف بمدينة فاس حكمًا بالسجن النافذ لمدة سنتين وسبعة أشهر في حق رئيس جماعة تاوريرت السابق، المنتمي لحزب الحركة الشعبية. الحكم جاء بعد متابعة قضائية في ملف شائك يتضمن منح 27 رخصة تعميرية بطريقة غير قانونية، وشبهات اختلاس وتبديد أموال عمومية.
هذه القضية لا تقف عند حدود التورط الفردي لمسؤول جماعي، بل تفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول فعالية آليات الرقابة المحلية، وضعف الشفافية، وأدوار المؤسسات المنتخبة، بل وتعيد طرح السؤال الأزلي: هل ربط المسؤولية بالمحاسبة مجرد شعار أم واقع يُطبَّق؟
في هذا المقال التحليلي، نستعرض تفاصيل القضية، خلفياتها القانونية والسياسية، تأثيراتها المحتملة، ونحلل السياقات التي تسمح باستمرار مثل هذه التجاوزات، مع التركيز على أهمية الإصلاح المؤسساتي لضمان النزاهة والحكامة الجيدة.
خلفيات القضية: من قمة الهرم الجماعي إلى قفص الاتهام
من هو الرئيس المعني؟
يتعلق الأمر برئيس جماعة تاوريرت السابق، الممثل السياسي البارز عن حزب الحركة الشعبية، الذي شغل منصب المسؤول الأول عن تدبير الشأن المحلي في المدينة، وهي مسؤولية تضعه في صلب منظومة التسيير الإداري والمالي للجماعة، بما في ذلك منح الرخص، تدبير المشاريع، والتنسيق مع المصالح الخارجية للدولة.
التهم الموجهة إليه:
وفق معطيات المحكمة، تمت متابعة المعني بالأمر بتهم ثقيلة تتعلق بـ:
-
منح 27 رخصة تعميرية غير قانونية دون المرور عبر المساطر الإدارية المنصوص عليها قانونيًا، خصوصًا تلك المتعلقة باستخدام المنصة الإلكترونية الوطنية للتعمير.
-
شبهة اختلاس وتبديد أموال عمومية، من خلال استغلال الموارد المالية للجماعة في أغراض غير واضحة أو غير مبررة قانونيًا.
-
الإخلال بواجب التدبير القانوني والإداري، ما تسبب في ضرر مباشر لمصالح الجماعة وساكنتها.
تفاصيل الحكم: ماذا قالت المحكمة؟
منطوق الحكم:
أصدرت غرفة جرائم الأموال حكمها في حق المتهم بالسجن النافذ لمدة سنتين وسبعة أشهر، مع غرامات مالية لم تُعلن تفاصيلها الرسمية، إلى جانب قرارات متعلقة برد الأموال المختلسة في حال ثبوت ذلك قطعيًا بعد الاستئناف.
السياق القانوني:
يأتي الحكم في إطار اختصاصات محكمة جرائم الأموال التي أُحدثت لمواجهة الفساد المالي والإداري بالمغرب، ووفقًا لمقتضيات القانون الجنائي، خاصة الفصول المرتبطة بجنايات وجنح الأموال العمومية واستغلال النفوذ.
المعطى السياسي: حزب الحركة الشعبية في موقف محرج
الحرج السياسي:
تمثل القضية إحراجًا سياسيًا كبيرًا لحزب الحركة الشعبية، أحد الأحزاب العريقة بالمغرب، والذي طالما قدّم نفسه كمدافع عن التنمية المحلية والعدالة المجالية. وجود مسؤول منتخب باسمه في قلب قضية فساد يضع قيادات الحزب أمام تحدي تبرير مواقفهم واختياراتهم.
ردود الفعل داخل الحزب:
حتى الآن، لم يصدر عن الأمانة العامة للحزب سوى بلاغ مقتضب يطالب باحترام "قرينة البراءة" ويُدين "استهداف المنتخبين الجماعيين"، دون تقديم موقف واضح حول مستقبل المتهم داخل الحزب.
وزارة الداخلية تدخل على الخط: العزل والوقف الفوري
توقيف إداري مسبق:
في غشت الماضي، وقبل صدور الحكم القضائي، تدخلت وزارة الداخلية عبر القنوات القانونية لتوقيف المعني بالأمر عن مزاولة مهامه، بعد تسجيل خروقات إدارية جسيمة.
إحالة على المحكمة الإدارية:
لم تكتف الوزارة بالإيقاف، بل أحالت الملف إلى المحكمة الإدارية، التي بدورها قضت بعزله نهائيًا من رئاسة المجلس الجماعي، وهو إجراء استثنائي لا يُتخذ إلا في الحالات التي تكتسي خطورة قانونية بالغة.
أوجه الخلل في تدبير الشأن المحلي:
غياب الرقابة الداخلية:
القضية تطرح علامات استفهام كبيرة حول ضعف آليات الرقابة الداخلية داخل الجماعات الترابية، من لجان المراقبة إلى تقارير الافتحاص المالي.
ثغرات قانونية واضحة:
-
استغلال ثغرات في القوانين المنظمة للتعمير، وعدم تفعيل المنصات الرقمية بالشكل الإجباري والملزم.
-
تراخي في التتبع من قبل المصالح الإقليمية لوزارة الداخلية، ما يعطي فرصة للمسؤولين المحليين للتصرف بكثير من الحرية دون محاسبة فورية.
التأثيرات المحتملة: هل تغير هذه القضية الواقع الجماعي؟
ترسيخ مبدأ المحاسبة:
الحكم الصادر قد يشكل سابقة قضائية مهمة تعيد الاعتبار لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتؤكد أن منصب المسؤولية لا يمنح الحصانة بل يضاعف حجم المسؤولية.
تعزيز ثقة المواطنين:
إذا ما تم تفعيل المتابعة المالية لاسترداد الأموال، وتوسيع التحقيقات لتشمل شركاء محتملين، فإن ذلك قد يسهم في تعزيز ثقة المواطن في المؤسسات القضائية والرقابية.
دروس مستخلصة من الملف:
ضرورة تحديث الإطار القانوني للتعمير:
الاعتماد على المنصات الإلكترونية يجب أن يكون إلزاميًا وقابلًا للتتبع، حتى لا تبقى قرارات منح الرخص خاضعة للاجتهاد الشخصي.
تعميم الافتحاص المالي:
يُستحسن أن يتم افتاحص جماعي دوري لجميع المجالس الجماعية المتوسطة والكبيرة، لتفادي تكرار مثل هذه الحالات.
حماية المبلغين:
القضية تطرح أيضًا تساؤلات حول من سرّب المعلومات أو أثار الانتباه إلى الخروقات، وهنا يُطرح موضوع حماية المبلغين عن الفساد كضرورة ملحة لنجاح أي استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد.
ختاما: من المحاسبة إلى بناء نموذج جماعي شفاف
قضية رئيس جماعة تاوريرت السابق ليست مجرد صفحة في ملف فساد إداري، بل مرآة تعكس هشاشة النظام المحلي في المغرب وضرورة إصلاحه من الجذور. إن المحاسبة لا يجب أن تكون فقط نتيجة لخطأ جسيم، بل جزءًا من ثقافة مؤسساتية يومية تعزز قيم الشفافية والنزاهة وتعيد ثقة المواطن في منتخبِيه.
المطلوب اليوم ليس فقط توقيع العقوبات، بل العمل على إصلاح شامل لمنظومة الجماعات المحلية، بدءًا من قانون التعمير، مرورًا بنظام الرقابة والافتحاص، وصولًا إلى تعزيز كفاءة وتكوين المنتخبين المحليين.
الأسئلة الشائعة (FAQ):
ما هي التهم المحددة الموجهة لرئيس جماعة تاوريرت السابق؟
منح رخص تعميرية غير قانونية، شبهة تبديد أموال عامة، وعدم احترام المساطر الإدارية المنصوص عليها في قانون التعمير.
ما العقوبة التي صدرت في حقه؟
حكمت محكمة جرائم الأموال بالسجن النافذ لمدة سنتين وسبعة أشهر، إلى جانب غرامات مالية.
ما دور وزارة الداخلية في هذا الملف؟
تدخلت بتوقيف الرئيس عن مهامه، ثم أحالت ملفه إلى المحكمة الإدارية التي قضت بعزله رسميًا.
هل يمكن أن تؤدي القضية إلى إصلاحات قانونية؟
نعم، من المتوقع أن تساهم هذه القضية في الدفع نحو إصلاح المنظومة القانونية للتعمير والرقابة على الجماعات الترابية.
كيف تؤثر هذه القضية على حزب الحركة الشعبية؟
تضع الحزب في موقف حرج، وقد تُجبره على إعادة النظر في طريقة انتقاء مرشحيه وتدبيره للملفات المحلية.
شاركنا رأيك
ما رأيك في هذه القضية؟ هل ترى أن الأحكام القضائية قادرة فعلاً على ردع الفساد؟ شاركنا أفكارك في التعليقات، وساهم في نشر هذا المقال لتعميم النقاش حول مستقبل النزاهة في تدبير الشأن العام المحلي.
أكتب تعلقيك هنا إن كان لديك أي تسائل عن الموضوع